بقلم ليلى طارق الناصري.
من ذكريات التي احتفظ بها عن الفترة التي سبقت هجرتي من العراق وبغدادي الحبيبة صورة جدا جميلة لمنزل في منطقة حي الخضراء المتداخل مع حي الجامعة في جانب الكرخ من بغداد أنه كان منزل ركن قد تم بيعه وأرضة كانت واسعه 1000 متر وفيها حديقة غناء وكان في احد أركان الحديقة نخلة كبيرة عالية جدا وجميلة للغاية وهناك نخلتين اخريتين في الحديقة لكنهما ليستا بطول تلك العالية جدا..
عند بيع هذا المنزل مع حديقته كان قد تم تقسيم الارض الى عدة بيوت سكنية وكان نصيب الجزء الذي فيه النخلة هو الركن المطل على تقاطع شارعين والمشكلة ان نخلة في وسط الارض اي لا يمكن البناء الا اذا قطعت هذه النخلة وهذا الشيء كان محزن ومرعب لي شخصيا لأني أعشق طولها وشكلها وتحمل عثوك كبيرة متلألأة وجميلة كل سنة …انا لا اعرف أصحاب البيت لكنه في طريقي عند عودتي من شغلي في شارع الربيع الى بيتي في حي الجامعة ومن ثم أنتقالي الى حي الخضراء ظللت طيلة سنوات استمتع بتلك النخلات الثلاث وخصوصا هذه الشاهقة بطولها….وظللت أفكر كيف سيقطعون النخلة ؟ ام سيبيعونها لأنها تستحق ملايين ؟ وكنت أرتقب ما سيحدث لأن البيت الذي بجانبها قد تم بناءه وسينتهي والاخر ايضا بدأو فيه وهذا لحد الآن مجرد سور ولا يوجد أي مظاهر للبناء.
وبعد فترة كانت المفاجأة التي لم احسب لها حساب لقد تم تخطيط المنزل الاخير وحفر الاساسات الا ان النخلة لاتزال في محلها وسط الارض !! ولم أفهم ما الذي سيحدث الا ان بدأ البناء يعلو وتتضح معالمه وإذا بصاحب البيت قد عمر منزله حول النخلة ! …نعم حولها وهذا تسبب له بمصاريف إضافية وخسارة للمساحة لكنه لم يفرط بهذا الكنز وأدهشني أنه قام بنقل أو شراء لا اعلم النخلتين الباقيتين ووضعها بحديقة المنزل من كل جانب واحدة وكان هذا التصرف مدهش للكثيرين كانوا يمرون ويصوروا شكل المنزل ( طبعا في وقتها لم يكن هناك موبايلات انما صور كاميرا الفوتوغراف) كان شكلها وهي أعلى حتى من بناء طابقين والسطح! جدا جميل ومنظر النخلتين على جانبي السور حلو والاحلى انه لم يفرط بهذه الثروة وقد أحتفظ بها رغم كل شيء.
لن أدخل في إحصائيات كم نخلة كنا نملك وما أصبحنا عليه الان ولماذا وكيف لكني سأذكر بعض الحقائق من باب العلم بالشيء لا أكثر، مرت 60 سنة على مطالبة أحد موظفي دائرةالزراعة في البصرة الحكومة آنذاك بتقليل عدد أشجار النخيل من اجل زراعة الأرض بأشجار أخرى بعد أن ضاقت المساحات بـالـ13 مليون نخلة المثمرة.
والتي كانت توصف حقاً بأنها «غابة لا تحد وأنهار لا تعد». وحتى منتصف الستينات من القرن الماضي كان عدد أشجار النخيل في البصرة أكثر من 13 مليون نخلة من مجموع نخيل العراق البالغ 30 مليوناً، ويؤكد الباحثون أن تسمية العراق بأرض السواد جاءت من مشاهد غابات النخيل في البصرة حين كان العراق يعني البصرة فقط، ومعروف لدى الجميع أن لفظة العراقيين تعني البصرة والكوفة. ويقول الشيخ عبدالقادر باش أعيان في كتابه «النخلة»: «تكاد البصرة تنفرد عن بقية مدن الأرض بالنسبة الى تأثير الفيضان فيها، فهي لا تتأثر به بل العكس تماماً، فهو يغسل أراضيها من كميات الملوحة التي يسببها قربها من البحر، وكانت المواسم التي تعقب الفيضان من أفضل المواسم الزراعية فيها، إذ تصبح أراضيها خصبة خالية من الأملاح، ومعدّة لزراعة مختلف أنواع المزروعات، وبخاصة النخيل».وتنفرد البصرة بوجود اكثر من 350 نوعاً من التمر بين التجاري الذي يصدر، كالحلاوي والساير والزهدي والخضراوي… وبين الخاص الذي يستخدم للاستهلاك المحلي، كرطب البرحي والبريم والقنطار. وكانت أول باخرة محملة بالبلح تغادر ميناء المعقل في مطلع الشهر العاشر من كل سنة متوجهة إلى أميركا، ثم تتوالى السفن الكبيرة منها والصغيرة تجوب بحار العالم شرقاً وغرباً حاملة تمر البصرة إلى العالم.
لم يتبقَ من بساتين النخيل الشامخة في البصرة إلا القليل بعد أن فتكت آلة الحرب بعدد كبير منها ، يضاف إليها الإهمال والتجريف وتصاعد نسبة ملوحة المياه والجفاف والأمراض التي عانت منها بساتين النخيل لأعوام طويلة، فبعد أن كان عدد النخيل يقدر بـ 30 مليون نخلة وبإنتاج يصل إلى أكثر من مليون طن من التمر سنوياً ، فقد أدت تلك الظروف إلى انحسار نصف أعداد النخيل وتقليص الإنتاج السنوي فلم يعد المسافر عبر مجرى شط العرب يتغنى بالنخيل البصري الممتد لمئات الأميال راسماً ضفتي النهر من رأس الخليج العربي في الفاو وحتى القرنة ملتقى نهري دجلة والفرات.*
كانت ولا تزال وستبقى النخلة ليست كغيرها من الشجر بالنسبة لي ولكل عراقي لأنها ترمز للكثير من صفات هذه الارض العريقة وهذا الشعب الأصيل عندما أسمع مفردة نخلة أتذكر العراق عندما أرى صورة نخلة كأني رأيت العراق هناك العديد من الاسباب التي تربط بين العراق واهله وهذه الشجرة المباركة النخلة فالنخلة كل مافيها مفيد بكل مراحل دورة حياتها حتى انتهاء تلك الحياة وبعد موتها ايضا مفيدة!
النخيل ينمو مستقيما نحو الأعلى متجه ولا ينحني ابدا العراق كذلك
النخيل يموت واقفا في مكانه ثابتا ولا يتخلى عن جذوره وان مات والعراق كذلك
النخيل شجرة معمرة مثمرة في كل الفصول يحتمي في ظلالها وبين جذوعها وتحت سعفها كل أنواع المزروعات وكذلك العراق يحتمي تحت قوة وعظمته الكثير من اشقاءه وكان يضمهم بحب دونما منة لطالما كان هو الحامي لكل الاقطار العربية وشعبوها.
النخيل شجر يمتد جذوره بالاعماق الاعماق فيكون أحد اسباب ثبات التربة ضد التجريف أثناء الفيضانات وكذلك العراق أصيل وعراقته تمتد الى اعماق التأريخ لتجعله صامدا ضد كل انواع التعرية من هجمات لغزوه ثقافيا وتحطيم حضاراته على مد العصور دوما عراقة العراق هي التي تنتصر.
النخيل تستفيد من كل جزء فيه الكرّب والسَعف واللِحّاء والتمر والجُّمار
الجُّمار: هو قلب النخلة والقمة النامية في النخلة تكون في أعلى الجذع، تستخرج بعد قطع النخلة وهي مادة سليلوزية بيضاء اللون تقطع كشرائح رقيقة وتأكل وتعتمد صحة النخلة وعافيتها على عافية الجمار، يستخدم لعدة للعلاج من عدة أمراض.
والجُّمار إذا أستخرج من النخلة يعني أنها ماتت وأنتهت لكنها تمنح جُّمارها بكل سخاء و بكل حب لأنها تحب ان تنفع الناس وتدرك البركة التي وضعها الله فيها من اجل البشر.
وكذلك العراقي كريم سخي و يضحي بنفسه ويموت من أجل الآخرين فنخوة العراقي وحميَّته هي مضرب الأمثال بين الناس أجانبهم قبل عربهم وما أستجار احد بعراقيّ فردهُ خائباً حتى لو عرضه ذلك للآذى والخطر.
وتبقى النخلة هي المرادف لمعنى العراقي بكل ما تحمله من معاني وتبقى هي رمز من رموز الشموخ في بلادي؛ تغنى بها الشعراء وغنى لها المطربين وتشبهت بها الحبيبة والأم وكانت النخلة دوما حاضرة في مورثنا الثقافي وكذلك في حاضرنا وأسمحوالي أن أذكر لكم هذه الابيات للشاعر العراقي الرائع والبليغ عبد الرزاق عبد الواحد وهو يصف النخلة:
مرَّة قيلَ لي
لمَ مِن دونِ كلِّ الشَّجَر
تحتفي بالنخيلْ؟
..
لم أجد ما أقول
غيرَ أنيّ تَذكَّرتُ كيف الفصول
تتعاقبُ كانت على بيتنا في العماره..
..
وتذكرتُ كيفْ
في شتاءٍ وصيفْ
تتغيَّرُ أشكالُ كلِّ الشجَرُ
تتناثرُ أوراقُهُ في المطرْ
وحدَها كانت المطمئنَّةَ في بيتنا
بين بردٍ وحَرّ..
وتذكرتُ..
يا ما رأيتُ بها تَمَرةً نصفَ مأكولةٍ
كان جَدّي يقول
لم أجدْ كالبلابلِ شيئاً أكولْ
إنها تعشق التمرَ،
تأكلُهُ وتغنّي
ووجدتُ مع الوقتِ أنّي
أعشقُ النخلَ والتَّمرَ
أعشقُ فيه البَلابلَ والطَّلعَ
والسَّعَفَ اللايحولْ
رغمَ كلِّ اختلاف الفصول
..
حين أصبحتُ في سنِّ جدّي
ونظرتُ لمجدِ العراقْ
صرتُ أدري لماذا
دمُ ألفِ شهيدٍ
لسعفةِ نخلٍ يُراقْ..
الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
المصادر:
*ديوان محافظة البصرة الصفحة الرسمية بواسطة هدى صالح.
* قصائد لعبد الرزاق عبد الواحد
الصور:
رائع جدا طرحك للموضوع ليلى ومداخلة الشعر طبعا “جميل جدا”. كم اتمنى مشاهدة النخلة في علم العراق والعمل على حمايتها كثروة وطنية ..
انا فعلا تشوقت لرؤية المكان بعد تقسيم الارض وتخريب الحديقة, على الاقل الواحد يشوف النخلة شلون ترتبت.
الصور تجنن بالمناسبة 🙂
مقال رائع ليلى وداني لبغداد و للبصرة و بعدين رجعت لبغداد. احييك لسردك الجميل للاحداث. ان شاء الله ترجع النخلة العراقية بشموخها و جمالهGhada
مقالة جميلة و سرد اجمل، الف تحية لعراقنا و نخيلنا الباسق.
مودتي.