ليلى طارق الناصري.
عن ماذا أكتب لكم اليوم تضاربت الأفكار عندي سأكتب عن القيمر انه رمز خاص بالعراقيين الكيمر العراقي ثم تراجعت وقررت أن أكتب عن السمك المسكوف الذي لا يعرفه ولا يستطيع تمييز المذاق الراقي له إلا من تذوقه على أصوله في العراق على ضفاف دجلة والفرات لكن أيضا تراجعت سأكتب عن التمر البرحي الذي لم أجد مثله بأي بلد أخر غير العراق أو يكون العراق مصدرا له لكن أيضا تراجعت !! وماذا بعد ؟ ما ستكتبين هذا الأسبوع ؟!! وصمتت الأفكار في رأسي وهدأ الضجيج وقفز إليً السؤال التالي: لمَ كُلِها أكلات ؟ لم كل ما خطر برأسي هو الطعام؟ واكتشفت أن هذه الحالة تنتاب كل المهاجرين كل من فارق بلده ووجد نفسه مزروعا في مكان ما على وجه الأرض لكنه ليس بلده وما ينتمي إليه ليست جذوره ممتدة في تلك الأرض إنما هو مجرد جذر سطحي في أول طبقة من التربة أي عامل من عوامل التعرية كفيل بزعزعته هبوب ريح أو تدفق ماء غزير أي شيء مرور طفل يعبث بلا مبالاة كفيل بانتزاعنا من تلك التربة.
كل الجاليات التي تعيش في الغربة تجد مكوناتها شبه ثابتة فهي :
- تتواصل بشكل كبير مع أبناء وطنها في (الغربة ) وتزداد تكتلا حسبا لأولوياتها فالبعض أولوياته المذهب الديني والآخر عشيرة أو قبيلة معينة أو انتماء إلى اتجاه سياسي معين المهم أنهم يتكتلون حتى وان أنكروا ذلك.
- يحافظون ويتشبثون وخصوصا الجيلين الأول والثاني من المغتربين على العادات والتقاليد التي ينتمون لها
- يقاومون الإحساس بالغربة ليس بالاندماج والتماهي بالمجتمع الجديد وإنما يحرصون عل نقل الموروث الثقافي ككل:
- من حيث الأغاني والأكلات والأمثال الشعبية وأحيانا حتى اللباس ونوعيته.
- تجد ديكور البيوت والأثاث يمتاز بطابع يعكس ثقافته ومعتقداته ومن أين جاء
- الأسماء حتى يحافظون عليها حتى وان حاولوا الحفاظ على ان يبقى اللفظ سليم وسهل على الآخرين في الموطن الجديد تجد الأسماء دوما تشير بشكل أو بآخر إلى أصولهم
- التزاوج فيما بينهم.
- مدافنهم الخاصة
وغير ذلك من الأمور التي تعكس حياة المغتربين المهاجرين وليس المغترب بشكل مؤقت ويعلم أنه سيعود بعد أن ينهي دراسته آو عمله
المغترب يمر بعدة مراحل نفسية خلال سنوات غربته يتعرض فيها الى تقلبات في المزاج والصحة الجسدية وهذه المراحل تختلف في شدتها ومدتها من مغترب الى أخر اعتمادا على مدى مرونته النفسية وقدرته على التكيف الايجابي وهذه المراحل ليست ثابتة تماما الى أنها بالغالب تكون بهذا الترتيب:
- مرحلة شهر العسل ( البرحي ):وهي قد تستمر لستة أشهر ويكون فيها المغترب يشعر بالإعجاب والانبهار بكل شيء جديد ولديه حالة من الانجذاب واللهفة للمكان الجديد.
- مرحلة الصدمة (الطرشي) : وهي تأتي بعد شهر العسل وقد تستمر لفترة سنة كاملة يواجه بها المغترب مشاعر الحنين الجارف وينتابه إحساس بالذنب أو الرغبة الشديدة بالعودة إلى الوطن الأم ( الحنين إلى الوطن)
- مرحلة التقبل (المسكوف) : وهي تكون بعد سنة ونصف إلى سنتين وتستمر إلى خمس سنوات يحاول فيها المغترب على تعلم اللغة الجديدة وتكوين علاقات اجتماعية داعمة له والحرص على الحصول على وظيفة ثابتة وقد يبحث عن الزواج من اجل دعم نفسه اجتماعيا ونفسيا في مواجه الغربة.
- مرحلة التأقلم والاندماج (الكيمر والكاهي) : وتأتي بعد مرور عشر سنوات من الغربة وهي أقسى عشر سنوات يمر فيها المغترب بالكثير من الضغوطات النفسية والاجتماعية والمادية والجسدية وإذا نجح باجتيازها بأقل الخسائر فهو بعد العشر سنوات نستطيع القول بأنه أصبح مؤهلا للعيش بشكل طبيعي بالمكان الجديد واحتمالات الانتكاسات النفسية تقل بشكل واضح جدا وقد تنعدم وأصبح أكثر ثبات واستقرار.
إنما الوصول الى مرحلة ( الكيمر والكاهي ) لا يعني أن المغترب قد أصبح سعيدا وحياته وردية وإن اندماجه أصبح نهائيا إنما هو يحقق ثباتا أكثر على الأرضية الجديدة.
وهناك فرق بين من تعرض لتجربة الاغتراب بشكل فجائي و غير مخطط له عن ذلك الذي قرر أن يهاجر وهو قد رتب الأمور للهجرة إن من تعرض للإكراه على اللجوء حرصا منه على سلامته الشخصية أو سلامة عائلته بشكل طارئ سيمر أولا بمرحلة تسمى :
(النومي حلو) : وهي الصدمة التي واجهها بسبب الآلام الفقد سواء كان للوطن أو الأهل فيكون لديه الكثير من الغضب والأسى وحالة الاكتئاب لأنه يشعر بالظلم لفقدانه بيته وممتلكاته وقد يكون فقد أحبته أو أي عضو أساسي بالعائلة كالأب أو الأم فقد دراسته وأصدقائه وعالمه. وانه بالرغم من تمتعه بالأمان وامتيازات أخرى إلا انه لا يشعر بلذتها ويغص ألما لما فقده تماما كما طعم الليمون الحلو الذي تتذوقه يبدو حلو لكنه يتنهي بفمك بمذاق خفيف من المرارة ( خيط المرورة ) كما كانت تصفه جدتي رحمها الله
ومن بعد (النومي حلو) سيمر بمرحلة المسكوف ومن ثم البرحي وهنا نجد هناك فرق في مراحل المعاناة النفسية التي يمر بها الفرد إذا كان مغتربا بإرادته وتخطيط منه وبين لاجئ أجبر على ترك وطنه فجأة والذهاب إلى بلد آخر بحثا عن الآمان. إلا إنهما يتشاركان بأن كل منهما بعد مرور عشر سنوات فما فوق بنفس البلد يكون المغترب أو اللاجئ أكثر ثباتا وتأقلما مع الوطن البديل.
وبعد مرور السنوات العشر يمكننا وقتها نقول أن المغترب ما عاد مغتربا بكل ما تعنيه الكلمة، وهذه المراحل تختلف من شخص لأخر حسب مدى مرونته النفسية وقدرته على التكيف والتحمل ربما يبقى المغترب أسير مرحلة ( الطرشي) وهي مرحلة الصدمة ويبقى عالقا فيها لا يستطيع الخروج منها ويضطر إلى العودة إلى الوطن أو يغير مكان استقراره من بلد لبلد و كأنه يبحث عن بديل مناسب وفي الحقيقة هو يبحث عن الوطن الأم ويريد إيجاد الراحة التي تعود عليها وبالواقع هو لن يجد الراحة ألا إذا عاد إلى وطنه.
وتجد أن الجيل الأول من المغتربين دوما في حالة عتب على الجيل الثاني لأنه يجده مستمتعا بحياته بهذا البلد البديل غير أنه ليس البديل بالنسبة للجيل الثاني خصوصا إذا كان قد ولد فيه وكبر وترعرع فانه بالنسبة له الوطن بكل بساطة! هذه الحقيقة يحاول الجيل الأول إنكارها ولو بينه وبين نفسه لا يتقبلها ويبقى يصر إنني اربي أطفالي على أن يكونوا عراقيين أولا وهذه واحد من أهم المشكلات التي يعاني كل من الجيل الأول والجيل الثاني صراعا طويلا بينهما وكل منهما يحاول أقناع الآخر بصحة وجهة نظره وصعوبة الموقف تكمن في إن كلاهما على حق !
في المقال التالي سأتطرق إلى نوع الصراع الذي يكون بين الجيل الأول والثاني والثالث للمغتربين في الوطن البديل وعن المراحل النفسية التي يعانيها كل منهم وكيف لنا أن نتعامل مع هذه التقلبات النفسية بأقل الخسائر النفسية الممكنة.
خوش مقال ليلى كالعادة ..
ربط الغربة بمسائل القيمر والكاهي وغيرها جميل واوريجنال بعد ?
أحب أن أضيف أيضا أنه الكثير من المغتربين وخاصة الجماعات اللي هاجرت فترة السبعينات الى نهاية التسعينات كان عدهم أمل يرجعون خلال أشهر أو سنوات بسيطة من هجرتهم لذا عدد كبير منهم لم يتاقلموا كليا وهذا اكيد أثر على الجيل الثاني والذي منه