بقلم وعدسة ليث حمودي
عندما كنت في المرحلة الثانية من الدراسة الأبتدائية, طلب منا المعلم أن نجلّد المناهج الدارسية للحفاظ عليها فما كان مني ألا أن أتيت بتلك الأوراق الملونة وقمت بتغليف كتبي على أكمل وجه ولكن المعلم رحمه الله أراد نوعا معينا من التغليف بالورق المقوّى وحينها استعنت بأحد أخوالي الذي أسعفني بتجليد كتبي بالورق المقوّى وانتهت تلك الأزمة التعليمية مع الأستاذ محمد سمارة رحمه الله.
منذ ذلك الحين وتغليف الكتب صار بالنسبة لي عالما سحريا وبعد سنين طويلة أدركت أنه ليس مجرد عالم سحري بل فن قائم بحد ذاته فأختيار الطبقة الورقية المناسبة ولون الغلاف المناسب والاغلفة الورقية الداخلية المناسبة والنهايات الأنيقة المنسقة وأخفاء آثار العمل واصلاح العيوب ليس مجرد عمل يدوي بل هو حرفة تتطلب الكثير من الأتقان والصبر والمهارة. ومن شدة تأثري وعشقي لهذا الفن فقد قررت ممارسته على كتبي ولكن بطريقة مبسطة جدا تخلوا من كل ورق وهي قائمة على تغليف حافات كتبي التي احرص على اقتنائها كل جمعة من مكاتب شارع المتنبي والميدان بشريط نايلوني لاصق عريض يحفظ حافاتها من التلف خصوصا أنني أبحث دائما عن الروايات بطبعاتها القديمة التي تعود الى فترة السبعينات بل وقبلها واحافظ على أناقها وجمال رسوم الدهر عليها.
وما إن تمر على بالي حرفة تغليف الكتب حتى يقفز الى قمة ذاكرتي أشهر اسواق الورّاقين, سوق السراي الذي ينتصب شامخا في محلة الرشيد, أحدى أقدم محلات بغداد القديمة فتتراقص أمام مخيلتي تلك المحلات العتيقة الصغيرة المنزوية داخله حيث تختبئ عطور الكتب القديمة والورق والمواد اللاصقة ويلقي سحر الأغلفة بتعويذاته الحالمة وقهقهات الكتب تحت قبلات تلك المكابس اليدوية التي تبقى محتضنة للكتب حتى يجف الغراء ويكتسب الكتاب حلّته الجديدة ودرعه الواقي من الصدمات وأسلحته المضادّة للزمن وعبث الأيادي المهملة.
سوق السراي, أسم أرتبط بهذه الصنعة العتيقة. فتعالوا معي في جولة سريعة نسبر بها بعض اغواره
عند الدخول الى شارع المتنبي قادما من شارع الميدان, يقع هذا السوق في نهاية شارع المتنبي على اليسار ملاصقا لما يعرف حاليا بالمركز الثقافي والذي كان يعرف بالمدرسة الأعدادية العسكرية في العهد العثماني وتقول بعض المصادر التأريخية ان بناء السوق تزامن مع بناء جامع الوزير حسن باشا، ابن الوزير محمد باشا عام 1660 ميلادية. وكان قد عرف قبل ذلك في القرن الخامس عشر الميلادي بسوق الجبقجية أي أصحاب مهنة (صناعة آلة التدخين) وأصحاب الحرف والمهن الجلدية والساعجية وغيرها من المهن ولم يكن حتى ذاك الوقت قد امتلك شخصية سوق المكتبات والوراقين، بل كان معنيا بالخدمات المرتبطة بأعمال الموظفين والمراجعين لدوائر الحكومة التي كانت تعرف باسم السراي الحكومي والتي اخذ تسميته منها.
والسوق عبارة عن زقاق ضيق لا يتجاوز عرضه الثلاثة أمتار او ربما أقل او اكثر بقليل وهو من الأسواق المغلقة أي أنه مغطى بسقف من الطابوق المرصوص بما يسميه البناؤون العراقيون (العگادة الحصيري) وهي طريقة بناء السقف من الطابوق والجص بطريقة فنية تدعم فيها الأحجار بعضها بعضا ويوجد فيه عدد من فتحات التهوية التي نقشت فيها نجمة سداسية والحديث هنا عن السوق القديم الذي ما إن أدخله حتى احاول أن أجول بنظري في كل اركانه وزواياه العتيقة علني اصطاد أثرا من الماضي واعود لأراقب حركات الأيادي التي تضع طبقات الورق المقوّى البيضاء والسمراء فوق الكتب والسجلات التي يرغب اصحابها في الحفاظ عليها وارى تلك الأنامل المكسوة بالغراء تمسك باطراف الورق قبل ان يرتمي هذا الأخير على اغلفة الكتب يفديها بنفسه. واضافة الى محلات تغليف وتجليد الكتب, يضم السوق عددا من محلات المنتجات الجلدية اليدوية الصنع والتي يبرع صانعوها في تزويقها بنقوش نباتية او اسماء اصحابها حسب الطلب. اما السوق الذي تقع فيه محلات القرطاسية والذي هو جزء من سوق السراي فقد تم اعادة تأهيله في زمن النظام السابق وتغليفة بسقف بلاستيكي مدعم بالحديد بينما تم تأهيل محلاته وتغليفها بالطابوق وأظهارها بمظهر جميل يتلائم وتأريخ السوق.
وكان السوق قد شهد في مطلع القرن المنصرم وحتى بداية التسعينات حركة دؤوبة مستمرة كانت تبثها تلك العقول العراقية المدمنة للقراءة والعلوم فكان اساتذة الجامعات وطلابها والمؤسسات الحكومية والأهلية تشد الرحال الى السوق لتحصين كنوزها من جراح الزمن وندبه. وعاش السوق فترة تألق كبيرة منذ منتصف الأربعينات وحتى بداية الثمانيات كنتيجة حتمية للاستقرار النسبي للمجتمع ونموه وتطوره ونهمه الى تلقي العلوم بمختلف فروعها واثمارها. اما اليوم فقد خضع السوق مثل كل مجالات العلم الى سيطرة التكنلوجيا التي حولت الكتاب من كيان بشخصية معنوية محترمة ذات هيبة الى مجرد ملف صغير داخل قطعة الكترونية لا يتجاوز حجمها أظفر طفل رضيع ولم يعد السوق يشهد تلك الحركة والنشاط الا من بعض رواده الذين يعيشون مثلي في عالم الماضي الحالم الجميل.
ختاما, أتمنى أن قد وفقت من خلال مقالتي البسطية هذه في أضاءة زاوية من زوايا ألق العراق ادعمها بصورتين ألتقطتهما بهاتفي المحمول أحداهما للسوق وأخرى لأحد فتحات التهوية فيه متمنيا لمن يرغب في زيارة السوق وقتا طيبا مع اروع الذكريات.
مقال ممتع عزيزي ليث كما عودتنا دائما. حبيت أسأل عن النجمة السداسية أن كنت بالطبع تعرف، ماهو تاريخها وهل هي بنيت من قبل اليهود والا مجرد صدفة وهل هي موجودة الآن بشكلها اللي في الصورة؟