بقلم زينة الألوسي.
محمد عليه الصلاة والسـلام.. بهذا الأسـم الكريم تَنطُق ملايين الشـفاه وَتَهتَز لَهُ ملايين القلوب كُلَ يوم مُنذُ مايزيد عن الف وأربعامئة سـنة.. وبهذا الأسـم الكريم سَـتَنطُق ملايين الشـفاه وَتَهتَز ملايين القلوب الى يَوم الدين…. يَصلي الناس في أرجاء المَعمورة من الفجر الى العِشـاء خَمس أوقات بالأضافة الى السُـنَن والنوافل وقيام الليل.. وفي كُل صلاة من هذهِ الصلواة فرضاً كانت ام من سُـنّن، يذكُر المُسـلِمون محمداً عبد الله ونَبيَّهُ وَرسـولَهُ في ضراعة وَخِشـية وأِنابة.. وفيما بَين الصلوات وَهم يقيمون بِما يتوجب عليهم من مسـؤوليات و واجبات ومهام يومية، ما يكادون يَسـمعون أسـمه حتّى تَجِفُ قُلوبَهُم بِذكر الله وبِذكر مصطفاه.. كذلك كانوا وكذلك سـيكونون حتّى يُظهِر اللهُ الدينَ القَيِّم وَيُتِمَ نِعَمتَهَ على الناسِ أجمعين.
لَمْ يَكُ مُحًمًد في حاجة الى زمانِ طويل لِيُظهِرَ دينَهُ وَيَنتَشِـر في الخافقين لواؤوه.. فَقَد أكملَ اللهُ للمُسـلمين ديَنَهُم قَبَيل وفاتِهِ، ويومئِذ وَضَعَ هو خُطَة أِنتشـار الدين: فَبَعَثَ الى كِسّـرى وَهِرَقل والى غيرَهُما مِن المُلوك والأمُراء كَي يَسـلِموا.. وَلَمْ تَمضِ مائة وخمسـون سـنة بَعد وفاتهِ عليهِ الصلاة والسـلام حَتّى كان عَلَمُ الأٍسـلام خفّاقاً مِن الأَنَدَلُس في غرب أوربا الى الهند والتركسـتان والى الصين في شـرق أسـيا وبذلك وصلت الشّـأم والعِراق وفارس وأفغانسـتان.. كما وَصَلَت مِصرَ وبرقة وَتونُس والجزائِر وَمَرّاكُش مابين أوربا وافريقية وَمبعَث محمد عليه السـلام.. ومن يَومِها الى يومِنا هذا بَقِيِ عَلَمُ الأٍسـلام مُرَفرِفاً على هذهِ الربوع جميعَها وتعّداها الى ما أبعد من ذَلِكَ.
معجزته القُرأن.. جاء مُتَمِماَ لِدين الله ومكارم الأخلاق، داعياً الناس بأمر ربهِ الى الأِيمان بالله وحدهُ لاشـريكَ لَهُ وَجنّبَهُم مايزيغ قلوبَهُم عنه، وبكتابهِ وَخَلقِهِ والشـهادة برسـالتهِ.. ومِما تَحَدَثَ بهِ وَركَّزَ عليهِ، عليهِ أفضل الصلاة والسـلام، العلاقات الأنسـانية وعلاقة الأنسـان وعالمهِ.
أن الرسـول الذي يرفع في الأرض شُـعلة السـماء والذي جاء يُصَحِح للأنسـانية مسـيرتها الأبدية، لَم يَكُنْ لينسـى دور العلاقات الأنسـانية الراشـِدة في دعم قِوى الحياة والأنسـان.. لَمْ يَكُنْ لينسـى دورها الكبير والمُهِم في أِضاءة الضمير الأنسـاني بنور الخير والنُبل وَدفع التَقَدُم الأنسـاني الى كمالهِ الميسـور والمقدور.. وأن أحاديثهِ الكريمه وتوجيهاتهِ تَســتوعِب كل صور هذه العلاقات وَتَرسُـم لها طريقها الصحيح وكأنها تَضَع لها دسـتوراً وقانوناً.
وأول ما يُعنى بهِ الرسـول الكريم في مجالات العلاقات الأنسـانية، علاقة الأنسـان بنفسـهِ.. أي أنسـان لِكَي يكون سَـوَّي التعامُل مع الآخرين، لابُد أولاً أن يكون سَـوَّي التعامُل مَعَ نفسـهِ.. فَالمُنشـَق على ذاتهِ والكارِه لها والسـاخِط عليها، من غير المُمكِن أن يَندَمِج مع المُجتَمَع وأن يَحظى بالنجاح والتَقَدُم والتَطور في حياتهِ ويُخفِق في مواجهة أخطائهِ وعيوبهِ ومحاولة أصلاحها والتوقف عن لوم الآخرين على فشـلهِ وتعليق أخطائهِ عَلَيهِم وعلى المَجتَمَع والحياة لأنهُ كاره لِنفسـه وهي أقرب الأحياء والأشـياء أِليهِ.. وعلاقة الأنسـان بنفسـهِ تَجِد مناخَهَا الخَصب وأرضها الطيبة وأزرها المَشـدود في الهُدى الذي بعث اللهُ بِهِ رُسـلَهُ وأنبياءَهُ.. فَبِقَدَر ماتنال من هذا الهُدى والنور، تكون قُدرَتُ الأنسـان على نَسـجِ أصدَق وأسـمى العِلاقات بينهُ وبين نَفسَـه، وبِقَدر ماتَبتَعِد عن الهُدى والنور يكون جَفافُ تِلكَ العِلاقات وَضمورَها.
يقول الرسـول عليهَ أفضل الصلاة والسـلام: ((أِن مَثَلَ مابَعَثَني اللهُ بِهِ من الهُدى والعِلم، كَمثل غيث أصاب أرضاً .. فكانت منها طائفة طيبة قَبِلَت الماء، فأنبَتَتِ الَكلأَ والعَشـب الكثير .. وكان منها أجَادِبُ أمسَـكَت الماء فَنَفَعَ اللهُ تعالى بِها الناس فَشًـرِبوا مِنها وَسَـقوا وزَرَعوا.. وكان مِنها قيعان لا تَمسـِك ماءً ولا تُنبِت كَلأً)).
أن الناس يتفاوتون تفاوِت الأرض وهي تَسـتقبِل الغيث، فَهُناك الأرض التي تَفتَح للغيثِ الهاطِلِ صدرها وتَمتَصَهُ مسـامُها في حبور وَغِبطه، حيث تُخرِج بعد ذلِكَ خبْأهَا وعطاياها وَكَرَمِها.. وهُناك الأرض العقيم، ولكِنَها أجادِب وحياض تَختَزِن الماء وتَحتَويه، فيأخُذ منه مَن شـاء لِما شـاء، فَهَذِهِ أيضاً ذات نَفع وخير.. ولكن هُناك الأرض الثالِثه..قيعان لا تُمسِـك ماء ولا تُخرِج نباتاً، فَلَيسَ لها في غيثِ السـماء حَظٌ ولانصيب…. أن الناس كذلك مثل الأرض، فالذي يَتَلَّقى هُدى الله ليَحيا بهِ ويرضَى وَيَشـكُر ويَكون حامِداً مُمتَناً لعطايا رَبهِ صَغيرِها وَكَبيرِها يَقِف مع الأبرار الذين يَمُدَّون الحياة الأنسـانية دَوماً بِخَير زادِها.. والذي يَختَزِن الهُدى لِيَغتَرِفَ مِنهُ القاصِدون، فَيكون لَهُ دورهُ المَشـكور في أِمداد الحياة بِهذا الزاد.. أما الذي لايَهتَدي ولايُسـاعِد الآخرين على هُدى فما لَهُ في الخير من نَصيب.. والرسـول عليهِ الصلاة والسـلام يَكرَه للأِنسـان أن يَكون كَتِلكَ القيعان المَخذولة البائِرة.. وأَنَهُ عليهِ السـلام لَيَدعونا الى الهُدى حتّى نَكون أهلاً للعَطاء وأهلاً للأِعطاء.
أِن الأنسـان لا يَقدِر على عون الآخرين مادام عاجِزاً عن عون نفسـه، فأعِن نَفسَـك وأقتَرِب من هُدى الله ونورهِ قَدَر ما تسـتطيع، ثُم أعِنّها بأن تَجعَل حياتَكَ مَعها قائِمة على علاقات سَـديدة ورَشـيدة وَمُحتَرَمة.. و أول عناصِر هذهِ العلاقات الرشـيدة السـليمة مع النَفس ألّأ تَجاوِز بِها قدرها وتَعطيها أكثر من حقَّها بالغرور والصَلَف والكبرياء.. فالكبرياء لله وحده.. وَكذلك ألَّا تَبخَسَـها قَدرها وَتَهمِلها بالجَهل والأِذعان والهَوان.. ويَقول عليهَ السـلام بهذا الخصوص: ((لا يزال الرجل يَذهَب نفسـه حتّى يُكتب في الجبّارين، فَيُصيبَهُ ما أصابَهم))…. فَحيث يَغفَل الأنسـان عَن حَقيقَتهِ وَيَركَب هَواه لِيَغتَر بهِ وَيَحَلِّق فوق عباد الله بَغياً وَعُتُّواً لا يكون ثَمّه أمن ولا أيمان.. أما أِذا وَضَعَ الأنسـان نَفسَـهُ في مكانِها الحَقّ فلا هَوان ولا عُدوان.. ولا صَلَف ولا أِتضّاع وأنهُ قادر بَعدَئذ على أن يُشَـيِّد بَقية العلاقات الرضيه الهنية التي تَهيئ لَهُ مع نَفسِـهِ أطيب وأسـعد وأزكى حياة وبالتالي علاقات طيبة ومَثمِرة وسـعيدة مع الآخرين ومع الحياة.
وَتَزكوعلاقة الأِنسـان بِنَفسِـهِ حين يكون ظاهِرَهُ وباطِنَهُ سَـواء.. فَكُلَما أِسـتقام الشَـكل والجَوهَر في أِنسـان، تَكَّوَنَت لَهُ شَـخصية مَشِـعِّة تُريح الأعَيُن وَتَهِبُ الثِقة.. وفي هذا يقول عليهِ الصلاة والسـلام: ((ما كَرِهْتَ أن يراه الناس منك، فلا تفعلْه أِذا خَلوتَ بنفسـك))…. أن هذا الحديث الكريم يَهيئ المَدخَل القَويم والسَـوَّي لِعلاقات صحيحة فاضلة تَصِل الأِنسـان بِالمُجتَمَع وبالبيئة..لأنَهُ أِذا أصبَحَت نظرَة الناس أِليهِ ضِمن الموازين التي تُحَدِد سِـلوكَهُ وَتَحكُمْ أخلاقياتِهِ، فَمعنى ذَلِكَ أنَّ عِلاقَتِهِ الباطِنة بِهِم تَقوم على الرغبة الحقيقية في أِحترامِهِم، وعلى الرغبه الحقّة في الظَفَر بأِحترامِهِم.. لِيسَ ذَلِكَ فَحَسـبْ، بل يَعني ذَلِكَ أيضاً أن ثَمّة ولاءً مُشـتَرَكاً بين ضمير المُجتَمَع وَضَميرِهِ لِتِلكَ القيَم وَالفضائِل التي تَظَلِل المُجتَمَع وَتَسـودُهُ.. والأِنسـان الذي يَحَقِق لِنَفسِهِ هذا المَسـتوى يَكون من أقدَر الناس على أعطاء العِلاقات الأنسـانية حَقَّها من المُبادرة والتأييد.
وأِذا أِسـتقامَت العِلاقة بَين المَرء وَنَفسِـهِ على النَسَـق الَوَدود وَالسَـديد الذي تُهِيَئُهُ لَهُ تعاليم الرسـول الأكرَم، يَسـتَطيع في ضياء التعاليم نَفسَـها أن يَعيش وَيَحيا في عِلاقات مُتسـامية مع البيئة كُلَها والناس أجمَعين.. فدعونا في ذِكرى ولادة نور الهُدى وَسَــيِّد العالمين وَخيرِ خَلقِ الله أن نَتَحلّى بِخُلُقِهِ الكريم وَخصالِهِ الطيبة وَنتَبِع سُـنَتِهِ وَتعاليمِهِ لِنُسـاعِد أنفُسَـنا والآخرين وَنَنهَض بالحياة والمُجتَمَع ونَرتَقي.
المصادِر:
حياة محمد – محمد حسـنين هيكل (الطبعة السـادسـة)
كما تحدث الرسول – خالد محمد خالد