بقلم زينة الألوسي.
جاءت فكرة أنشـاء المدرسـة في بدايات القرن السابع الهجري وبالتحديد في سنة (623هـ) حين تولى المستنصر بالله وهو أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المسـتضيء بأمر الله حسن بن المسـتنجد بالله يوسف ابن المقتفي العباسي البغدادي الخلافة في بغداد، وقد ولد في سنة (588هـ)…. كان عاقلا حازما قرّب العلماء والصلحاء وبني المساجد والمدارس والربط ودور الضيافة والمارسـتانات (المسـتشـفيات) فضلا عن اعماله العمرانية الكثيرة حيث مازال بعضها قائما الى اليوم ومن ضمنها المدرسة المستنصرية.. وهي موضوع مقالتي اليوم من ضمن سـلسلة “بغداديات” اتمنى أن ينال أعجابكم و أستحسـانكم.تقع بناية المدرسة المستنصرية على الجانب الشـرقي لنهر دجلة و تطل على شـاطئ النهر بجانب “قصر الخلافة” بالقرب من المدرسة النظامية ..ومكانها اليوم بجوار جسـر الشـهداء نهاية شـارع النهر في بغداد الرصافة.
بدأ العمل في المدرسـة المسـتنصرية سـنة (625هـ/ 1227م) و تولى بنائها استاذ الدار مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي فكانت آية فنية رائعة على مسـاحة تبلغ (4836م2) بنفقة بناء بلغت سـبعمائة الف دينار في ذلك الوقت، و أسـتمر البناء لسـت سنوات من العمل الجاد والدؤوب حيث تم الانتهاء من بنائها في جمادي الآخرسـنة (630هـ/1232م).. وتتألف المدرسة من طابقين شُـيدت فيهما مائة غرفة بين كبيرة وصغيرة أضافة الى الأوانين و القاعات ومن ضمنها أوانين المذاهب الاربعة: (الشـافعي..الحنفي.. الحنبلي.. والمالكي) و القاعات…. فكان أيوان القبلة الايمن للفقهاء الشـافعية والربع الثاني على اليسار للفقهاء الحنفية والربع الثالث يمنة الداخل للحنابلة والربع الرابع يسـرة الداخل للمالكين.. وفي كل رواق مدرّسـان ولكل منهما نائبان معيدان وسـتون طالباً، ومن ملحقات المدرسة: دار القرآن ودار الحديث وقسم النحو وأيوان الطبيب الذي تم افتتاحه سنة (633هـ/1235م).. وفي صدر هذا الايوان كان صندوق الساعات يُعرف منه أوقات الصلاة وانقضاء الساعات ليلاً ونهاراً ….هذا من ناحية الاداء اما من ناحية العمران والبناء فقد احسن وصفها القرماني عندما قال مادحاً جمالها وشكلها البهي انها مدرسة لم يبن على وجه الارض أحسن منها.
كان المستنصر بالله كما تؤكد المصادر التاريخية مهتما جدا بمدرسته، لانها كانت تشكل بالنسبة له انجازاً علمياً رائعاً ولهذا كان شديد العناية بها بعد إنشائها حيث كان له شُـبّاك يطل على ايوان الحنابلة حيث كان يجلس اليه ليسمع الدرس، وكذلك أَمَرَ أن ينتقل اليها من نفائس الكتب الادبية والدينية ما حمله مئة وستون حمالاً.
و تم افتتاحها باحتفالية خاصة لهذه المناسبة…. وكان من ضمن الحضور لهذه الأحتفالية (ابن الساعي) و قد ذكر ذلك أبن كثير في كتابه “البداية والنهاية” حيث يصف يوم الافتتاح نقلا عن ابن السـاعي قائلا: (ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرتُ الدروس فيها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من الأمراء والوزراء والفقهاء والقضاة والصوفية والشعراء ولم يتخلف أحد من هؤلاء، وعمل سماطا عظيما أكل منه الحاضرون وحمل منه الى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام وكان يوما مشـهودا أنشـدت الشعراء للخليفة المدائح الرائعة والقصائد الفائقة.
وأهمية المدرسة المستنصرية في تلك الحقبة الزمنية كانت تأتي من خلال كونها مؤسـسـة رسمية تمول الدولة بالكوادر العلمية حيث تميز العصر العباسي الأخير عن غيره من العصور الاسـلامية التي سـبقته بظهور المدارس أماكن للتعليم عند المسلمين حيث أصبح نظام المدرسة من الضروريات التي تتطلبها الظروف المستجدة في الواقع العربي الأسـلامي نتيجة لتطور المجتمع وظهور الحاجة الى أن تشـرف الدولة على النظام التربوي لتحقيق أهدافها وسـد حاجتها من الموظفين الرسـميين والاداريين لاشغال مناصب الدولة و وظائفها ولهذا أصبحت المدرسـة منظمة رسـمية من منظمات الدولة يتخرج منها عمال الدولة وموظفيها.
اما فيما يتعلق بنظامها فتؤكد مصادر التأريخ بان الخليفة المسـتنصر بالله وضع نظاما دقيقا لمدرسته حيث تم تحديد عدد المدرسين والطلاب وقراء القرآن الكريم والحديث النبوي وعين لها ناظرا ومشرفا وخازنا للكتب ومناولا وكاتبا الى جانب المعماريين والفرّاشـيين والبوابين والطباخين وغيرهم كما تم تحديد مرتبات ومخصصات هيئة التدريس والطلاب والعاملين فيها … وهؤلاء كلهم لهم المشاهدة والجراية الدائرة واللحم والمطبخ الدائر والحلوى والفواكه والفرس والصابون والمسرجة وأبريق النحاس مع رواتب شـهرية تتضاعف في شـهر رمضان لأهميته القدسية في حياة طلاب العلم و مُدَّرسـيهم من ناحية.. ولكون رمضان يتبعه عيد الفطر المبارك وعليه فموضوع مضاعفة الرواتب يأتي من باب عيدية العيد السـعيد .
كانت مكتبة المدرسـة المسـتنصرية زاخرة بأعداد ضخمة من المجلدات النفيسـة والكتب النادرة. وبلغ تعدادها 450 الفا وتعد مرجعاً للطلاب. كما قصد المكتبة الكثيرون من العلماء والفقهاء وترددوا عليها واسـتفادوا من كنوزها العلمية والأدبية نحو قرنين من الزمن. وقد نقل الخليفة نفائس الكتب من مختلف العلوم والمعارف ما يقدر بـ80 الف مجلد بحسب الصنوف.
وكان يتم اختيار الطلاب من المدارس المختلفة ومن الذين اشتهروا بالتأليف والتصنيف والتدريس من مختلف المدن العراقية والبلدان الإسلامية كالأندلس ومصر وقوينة والشام وأصفهان وخراسان
بلغت مدة الدراسة في المدرسـة المسـتنصرية عشـرة أعوام وتضم اقسام علوم القرآن والسـنة النبوية والمذاهب الفقهية والنحو والفرائض والتركات ومنافع الحيوان والفلسـفة والرياضيات والصيدلة والطب وعلم الصحة.. وهي أول جامعة أسـلامية جمعت فيها الدراسـة الفقهية على المذاهب الاربعة (الحنفي والشـافعي والمالكي والحنبلي) في مدرسـة واحدة.. اما المدارس الفقهية التي قبلها فأختصت كل واحدة منها بتدريس مذهب معين من هذه المذاهب.. وبعد انتهاء الدراسة يُمنَح الطالب شـهادة التخرج التي تؤهله التوظف في دواوين الدولة.
وكانت تتوسـط المدرسـة نافورة كبيرة و فيها سـاعة المدرسـة المسـتنصرية العجيبة.. وهي سـاعة عجيبة غريبة تعد شـاهداً على تقدم العلم عند العرب في تلك الحقبة من الزمن حيث كانت تعلن أوقات الصلاة على مدار اليوم.. وقد جاء ذكرها في خلاصة “الذهب المسبوك“، و ورد ذكرها أيضاً في “آثار البلاد وأخبار العباد” وكذلك في “العسـجد المسـبوك” وهي كتب غير موجودة الان. وملخص ما جاء في هذه الكتب: “انه في ثامن جمادي الآخرة من سـنة (633هـ ) تكامل بناء الايوان الذي أُنشـيء قبالة المدرسـة المسـتنصرية و ركب في صدره صندوق الساعات على وضع عجيب تعرف به اوقات الصلوات و أنقضاء الساعات الزمانية نهاراً وليلاً.. والصندوق عبارة عن دائرة فيها صورة الفلك و جعل فيها طاقات لطاف لها أبواب لطيفة. وفي طرفي الدائرة بازان من ذهب في طاستين من ذهب، وورائهما بندقتان من شبـه لايدركهما الناظر، فعند مضي كل ساعة ينفتح فـمـا البازين وتقع منهما البندقتان، و كلما سـقطت بندقة أنفتح باب من أبواب تلك الطاقات. و الباب مُذَّهب فيصير حينئذ مُفَضضّاً، وحينئذ تمضي سـاعة زمانية. واذا وقعت البندقتان في الطاستين فأنهما تذهبان إلى مواضعهما من نفسـيهما اي بصورة ((تلقائية)). ثم تطلع شـموس من ذهب في سـماء لازوردية في ذلك الفلك مع طلوع الشـمس الحقيقية و تدور مع دورانها وتغيب مع غيوبتها. فاذا غابت الشمس وجاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها، كلما تكاملت سـاعة تكامل ذلك الضوء في دائرة القمر. ثم تبتديء في الدائرة الأخرى الى أنقضاء الليل وطلوع الشـمس فَيُعَلم بذلك أوقات الصلوات”….ولعل في ذكر السماء والشمس والقمر والكواكب والبروج في ساعة المسـتنصرية مايدل على علاقة ذلك كله بالحركة الفلكية من رصد النجوم والكواكب وبيان حركة الشـمس وحركة القمر و اوجهه المختلفة.
وذكرها الشعراء في اشعارهم ومنهم أبو الفرج بن الجوزي في ابيات مدح بها الخليفة حيث قال:
يا أيها المنصور يا مالكا … برأيه صعب الليالي يهــــون
شيدت لله ورضوانــــــــه … أشرف بنيان يروق العيـــون
أيوان حسن وضعـــه مدهش … يحار في منظره الناظـــــرون
صور فيـه فلك دائر والش … مس تجري ما لها من سكـــــون
دائــــرة من لازورد حكت … نقطة تبر فيه سرمصـــــــون
فتلك في الشكل وهذي معـا … كمال هاء ركبت وسط نــــون
ظل التدريس قائما في الجامعة المستنصرية أربعة قرون منذ ان أُفتُتِحَت في سـنة (630هـ/1232م) حتى سـنة (1048 هـ/1638م)، وان تخلل ذلك فترات انقطاع.. كانت الأولى في أثناء الاحتلال المغولي لبغداد سنة (656 هـ/1258م) وتوقفت الدراسة فيها قليلاً، ثم عاد إليها نشاطها من جديد.. حيث اسـتؤنفت الدراسة في نفس السـنة، وظلت الدراسة قائمة بالمستنصرية بأنتظام بعد سـقوط بغداد نحو قرن ونصف من الزمن.
توقفت الدراسة بها وبغيرها من مدارس بغداد بسـبب تدمير تيمورلنك لبغداد مرتين.. الأولى سـنة (765 هـ/1392م) والأخرى في سـنة (803 هـ/1400م)؛ حيث قضى تيمورلنك على مدارس بغداد ونكَّل بعلمائها وأخذ معه الى سـمرقند كثيراً من الأدباء والمهندسـين والمعماريين.. كما هجر بغداد عدد كبير من العلماء الى مصر والشـام وغيرها من البلاد الأسـلامية.. وفقدت المسـتنصرية في هذه الهجمة الشـرسـة مكتبتها العامرة و ظلت متوقفة بعد غزو تيمورلنك نحو قرنين من الزمن حتى أُفتُتِحَت للدراسـة عام (998 هـ/1589م)، ولكن لم تدم طويلا فعادت وأغلقت أبوابها عام (1048 هـ/1638م)، ومن ثم فتحت مدرسـة الآصفية في مكانها وكانت مدرسة الآصفية من مرافق المدرسـة المسـتنصرية.
و جدد عمارتها الوزير داود باشـا والي بغداد في عام (1242 هـ/ 1826م).. وسـميت بالآصفية نسـبة الى داود باشـا الملقب بآصف الزمان….. و في عام 1940م أســتعادت دائرة الآثار العراقية ملكية المدرسة المستنصرية و أجريت أول أعمال صيانة للمدرسة 1960م و الصيانة الثانية كانت في 1973م…. ولا تزال ليومنا هذا صرحا شـامخاً وبناءً معمارياً من أروع و أجمل مايكون ودليلاً و شـاهداً واضحاً على تأريخ بغداد العريق ودورها الكبير في أنتشـار العلم والحضارة الى بلدان العالم كافة.
المصادر:
- وكيبيديا الموسـوعة الحرّة
- الصباح Al-Sabah Newspaper /المدرسـة المسـتنصرية طراز معماري رائع واداء علمي كبير د. علي العكيدي
- بغداد لايف/ المدرسـة المسـتنصرية Baghdad Life
- Iraq Only