بقلم أحمد طاهر.
مرت علينا قبل ايام ذكرى افتتاح اذاعة بغداد او راديو بغداد والتي تصادف في الاول من تموز / يوليو 1936 – سأتي إلى السبب الذي لم اكتب وانشر على (عراق أنا) في هذا التاريخ ونفس اليوم الذي نحتفل فيه سنويا بذكرى تأسيس وافتتاح أذاعة بغداد.
تعتبر اذاعة بغداد ثاني محطة اذاعية في تاريخ الوطن العربي – الاولى هي اذاعة القاهرة التي تأسست قبل عامين من تأسيس الاذاعة العراقية. كانت لاذاعة بغداد والتي كانت معروفة إيضاً باسم محطة الحكومة اهمية كبيرة في مواكبة التغيرات الحاصلة في العراق وخاصة السياسية منها حيث كتب الاعلامي الكبير محسن حسين: “تاريخ اذاعة بغداد حافل له علاقة بكل التطورات التي حدثت في العراق وكانت الهدف الاول للحركات الثورية والانقلابية للسيطرة على الحكم بعد اذاعة بيانها الاول.”
وتعود فكرة تأسيس اذاعة بغداد الى زمن الملك غازي( 12 اذار / مارس 1912 – 4 نيسان / أبريل 1939) وهو ثاني ملوك المملكة العراقية الذي حكم البلاد من 8 تشرين الاول /سبتمبر 1933 ولغاية وفاته في حادث سيارة غامض بتاريخ 4 نيسان / أبريل 1939. كانت لدى الملك غازي اذاعة خاصة به اطلق عليها اسم اذاعة الزهور لانه كان يتم بث برامجها من مبنى قصر الزهور وهو القصر الملكي الاول الذي بناه المهندس البريطاني مايسون في عهد الملك فيصل الاول واكتمل بناءه في الثلاثينيات من القرن الماضي. بعد التحول الى النظام الجمهوري اصبح البناء مهجورا لعقود وفي عام 2003 تدمر بالكامل نتيجة للقصف الامريكي.
تطورت فكرة انشاء اذاعة رسمية في تلك الفترة وكانت هناك محاولات حثيثة من قبل الجهات المعنية في أطلاق بث اذاعي رسمي. ففي 27 كانون الأول / ديسمبر 1935 أعلنت دائرة البريد والبرق العامة على الملأ وفي الصحف المحلية عن موعد البث الاختباري الأول الذي أشارت فيه إلى إن البث سيكون مساءاً وعلى موجة قصيرة، وطلبت من المواطنين إبداء آراءهم حول الإذاعة وعن مدى وضوح استماعهم لها، وأن تأسيس المحطة واستمرارها يتوقف على نتائج ذلك البث الاختباري. عليه قامت دائرة البريد والبرق العامة بالاتفاق مع الملا مهدي وبعض الموسيقيين في بغداد للمشاركة في البث الاختباري، وحسب التوقيتات الآتية:
• الساعة السابعة: موسيقى إفرنجية (غربية) واسطوانات.
• الساعة الثامنة: موسيقى عربية (الأستاذ عزوري وتخته).
• الساعة التاسعة: قران كريم – الملا مهدي.
كانت ردود الفعل جيدة جداً من المواطنين ممن يملكلون أجهزة راديو – يذكر أن معظم أجهزة الراديو الموجودة في بغداد آنذاك، كانت تستلم البث على الموجات الطويلة، والمتوسطة لكون هذه الانواع من الأجهزة هي التي كانت متوفرة في أسواق بغداد. بعدها بأيام قليلة، توقفت مديرية البرق والبريد العامة عن مواصلة البث الإذاعي بعد أجراء التجارب الاختبارية لرفع تقريرها إلى وزارة الاقتصاد والمواصلات عن نتائج البث.
وفِي تاريخ 7 شباط/ فبراير 1935 بدأ البث التجريبي الثاني حيث قامت مديرية البريد والبرق العامة بنصب جهاز مذياع في المطار وتوجهت بدعوة مدراء و مالكي الصحف فقط, وأن البث سيبدأ في الساعة السادسة والنصف مساءاً. تضمن البث مجموعة من الفقرات الغنائية والتقاسيم الموسيقية لفنانين عراقيين مثل سليمة مراد وصالح الكويتي وعبدو سعادة وكذلك بث مقطوعات موسيقية اجنبية ومحاضرة ثقافية للدكتور حنة بك خياط.
التجربة الثالثة كانت بتاريخ 21 شباط / فبراير 1935 وتضمنت برامجها موسيقى وأغاني ومحاضرات. وفي يوم 24 حزيران / يونيو 1935 وجه رئيس الوزراء ياسين الهاشمي كتاباً إلى وزارات المعارف، والإقتصاد والمواصلات، والداخلية قدم فيها مقترح تأسيس إذاعة ولاقت الفكرة استحسانا من جميع الجهات . تألفت على أثر ذلك لجنة برئاسة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي وعضوية كل من وزير المعارف وممثلين من وزارات الاقتصاد والمواصلات والداخلية لوضع أسس لمشروع منهاج واسع للدعاية.
وفي يوم 8 أيلول / سبتمبر 1935 اقامت دائرة البرق العامة برنامجاً خاصاً بمناسبة عيد تتويج الملك غازي، وكان منهاجاً ترفيهياً لم يتم بث الأخبار أو البرامج السياسية والثقافية. كان للإذاعة صدى كبير ليس في بغداد فحسب وانما في مدن الموصل والديوانية وكركوك حتى أن البث وصل إلى مدينة بيروت أيضاً، مما دفع لجنة البث اللاسلكي الى الاجتماع في 18 أيلول / سبتمبر 1935 لتنظيم بث إذاعي مرة كل خمسة عشر يوما، إنشاء محطة إذاعية صغيرة في منطقة الصالحية لكنها قادرة على البث إلى جميع أنحاء العراق وكذلك إلى الخارج مثل سوريا وفلسطين إلى أن يتم اكمال بناء المحطة الرئيسية. وأحالت إنشاء المحطة المؤقتة إلى متعهد اشترطت عليه إكمالها في مدة لاتزيد عن 45 يوما، وبتكلفة 1800 دينار.
من ردود فعل المهتمين بهذا الأنجاز الكبير من مثقفين ومستمعين على حد سواء إلى الدفع والتأكيد على إن تتكون لجنة الإذاعة من ذوي المكانة الأدبية والاجتماعية فقط لتنظيم مناهجها وبرامجها، وان تكون فترة البث أسبوعية بدلا من مرة واحدة كل خمسة عشر يوماً. وعلى هذا الأساس بدأت المباشرة بتشييد البناية الخاصة لمحطة الإذاعة ، فاستعان العراق بمهندس بريطاني في إدارة البريد والبرق الذي أجرى دراسة وقدم تقريرين عام 1935، الأول يتعلق بالجانب الفني، والثاني بالتكاليف المادية.
لم يخلو المشروع من الصعوبات مما أثر ذلك على تنفيذ المشروع في المواعيد التي تم وضعها في البداية في أن يتم إفتتاح المحطة الرئيسية في نفس ألسنة، فقد كانت هناك صعوبات مادية في المخصصات وكذلك لم يتم إكمال بناء المحطة في 45 يوم، كذلك فقد كانت هناك صعوبة إيجاد الخطباء والشعراء والموسيقيين والمحاضرين. كنتيجة لذلك قدمت وزارة الاقتصاد والمواصلات توصيتها إلى وزارة المالية بتخصيص المشروع من ضمن ميزانية البريد والبرق للسنة المالية 1937. بعد موافقة لجنة الإذاعة اللاسلكية العراقية التي تم تشكيلها قررت وزارة الاقتصاد والمواصلات أنْ يتولى يونس بحري أدارة محطة الإذاعة وفؤاد جميل سكرتيرا، واستوردت الحكومة العراقية جهاز ارسال من بريطانيا للبث التجريبي الذي تقرر إن يكون موعده يوم الأربعاء 10 حزيران / يونيو من العام 1936. وبعد اكتمال ونصب جميع المعدات ونجاح البث التجريبي قررت اللجنة أنْ يكون تاريخ البث التجريبي الرسمي الأول في الأول من تموز 1936
بتاريخ 1 تموز / يوليو 1936 تم افتتاح راديو بغداد وسط احتفال كبير بحضور رئيس الوزراء ياسين الهاشمي ووزير المعارف صادق البصام وجمع كبير من الناس، منهم توافد إلى الساحات التي حرصت الحكومة على نصب أجهزة راديو فيها لاستقبال البث، وكذلك في عدد من المقاهي، وهناك من الناس من توافدوا وتجمعوا أمام مبنى الاذاعة في منطقة الصالحية الذي تزينت واجهته بسعف النخيل الجميل. كان مبنى الاذاعة صغير جدا ولايحتوي الا على غرفة للمدير واستديو لاذاعة الموسيقى والاخبار والقرآن الكريم.
ألقى الشاعرعبد الرحمن البنا في حفلة الإفتتاح قصيدة من محطة الاذاعة العراقية بتلك المناسبة. نذكر بعض الابيات منها:
تناول أصداء الكلام مقلدا
ورجع مايتلى عليه ورددا
أطل على الأفواه يخطف كل
مانقول فيلقى ماتخطف كالصدى
أخف من الوهم الدقيق على النهى
وأسرع من البرق الجنوح إذا بدا
يبث على الأسماع منه إذاعة
فلا لامست عينا ولاصافحت يدا
ولكنها جاءت من الفن آية
بقرب لاسلكيها ماتبعدا
تذكر المصادر ان اول بث رسمي مباشر لمحطة الإذاعة (الاسم الرسمي للإذاعة) كان بتاريخ 7 تموز / يوليو 1936، وكان طول الموجة التي تم البث عليها 391 و767 كيلو سايكل
هذا هو السبب الذي على أساسه تم كتابة ونشر هذه المقالة اليوم وليس في الأول من تموز / يوليو
احتوى البرنامج الاذاعي على:
8.10 مساءاً – تلاوة القران الكريم للمقرىء عبد العزيز الخياط
8.40 مساءاً – نشرة الأخبار الداخلية والخارجية والتجارية قدمها ابراهيم حلمي العمر وكيل مدير الدعاية والنشر
9.00 مساءاً – عزف على آلة الكمنجة للموسيقار العراقي صالح الكويتي
9.25 مساءاً – محاضرة عن السل عند الاطفال والامراض الشائعة في العراق للدكتور خليل افندي المصفى
9.40 مساءاً – منتخبات من الاسطوانات الشرقية -عراقية, سورية, تركية
10.00 مساءاً – جوق المطربة سليمة باشا مراد
11.00 مساءا – الختام بالسلام الملكي
كان بث القناة ثلاثة ايام بالاسبوع فقط، السبت والأثنين والخميس ولمدة ساعة في الصباح وساعة في المساء.
توقف البث بشكل مفاجئ وكبير في 16 ايلول / سبتمبر 1936 أي بعد شهرين من إنطلاق البث بامر من رئيس الوزراء ياسين الهاشمي. المعلن إلى الملأ عن أسباب الغلق كان بحجة تنظيم المناهج بصورة تنسجم ورغبات الجمهور وأن التغطية الأذاعية غير كافية لتصل إلى المستمعين في مدينتي الموصل والبصرة! لكن الأسباب الحقيقية كانت عديدة فمنها نقص في المخصصات التي شكلت صعوبة في دفع رواتب العاملين، حاجة الأذاعة إلى متخصصين في العمل الاذاعي، وكذلك انتشار الفساد الأداري وعدم الاستقرار الأمني والحكومي في عهد حكومة ياسين الهاشمي والخلافات الكبيرة والحادة بين الوزراء والبرلمان في ذلك الوقت، كلها كانت أسباب لاغلاق اذاعة بغداد.
عادت الإذاعة الى البث في 28 كانون الأول / ديسمبر من عام 1937 ثلاث مرات في الاسبوع لمدة ثلاث ساعات ونصف كل يوم ثم ازداد الى اربع مرات في الأسبوع، وتم ابدال اسم محطة الإذاعة الى دار الإذاعة رسميا في العام 1937 وتم فرض قانون ضريبي على كل مذياع بمبلغ قدره 500 فلس لتمويل مصروفات الاذاعة ولتوزيع الاجهزة على المحافظات والمدارس والأماكن الحيوية. وبتاريخ 1 آب / اغسطس 1938 بدأ البث اليومي.
كان اول صوت نسائي يقول هنا بغداد صوت المذيعة فكتوريا نعمان عام 1943 اي بعد 7 سنوات على تاسيس الاذاعة.
في عام 1949 تم بث اول تمثيلية إذاعية في العراق باسم مجنون ليلى باللغة الفصحى.
كل عام واذاعة بغداد الرائدة بالف خير و كل الحب و التقدير و الأحترام لكل من عمل فيها من الاحياء منهم والاموات (رحمهم الله).
المصادر:
• الويكيبيديا
• The architecture of the British mandate – The journal of architectuur
• المدى/سندس حسين علي – عن رسالة (توجهات الاذاعة العراقية 1936ــ 1958)
algardenia
• Nala4u
• Media News
• صفحة الاعلامي الكبير محسن حسين جواد – صور من الماضي البعيد (115)