بقلم ليث حمودي.
حينما أتجول في مدينة ذكرياتي القديمة المترامية الاطراف، هناك شوارع وأزقة ذكريات لا يمكنني تجاهلها، بل إن أقدام عقلي المنهكة من اعباء الحاضر تجرني رغما عني الى تلك الأزقة الساحرة. فأراني اقف عن كل باب من أبوابها، اقف على اعتابها واطرقها بلهفة وشوق فأراها تنفتح على انغام تلامس شغاف القلب.
ومن بين كل تلك الأبواب، يقف الباب المؤدي الى شارع 20 في حي سمسم مرصعا بكل ما يسر قلبي من الذكريات. تتثاقل خطواتي لا من تعب او ضجر ولكن لرغبة قلبي في أن يشبع نهمه من تلك الذكريات. فأراني اقف على عربة العم عبدالله (الفنان الكويتي الراحل أحمد الصالح رحمه الله) لشراء ما يلزمني من قرطاسية والعاب والاستماع الى نصائحه القيمة ومن ثم اذهب الى ورشة الكهربائي الشاطر هشام (الفنان العراقي الراحل قائد النعماني رحمه الله) للتعرف على بعض الحقائق العلمية باسلوبه السلس ثم امر ببيت المهندس حمد (جاسم النبهان) ولا مناص من زيارة المعلمة الرائعة مريم (سناء التكمجي) لتلقي بعض الدورس النافعة وطبعا لا بد بعد هذه الجولة ان أعرج على محل العم سعيد (الممثل الكويتي خليل حسن زينل رحمه الله) لشرب كوب من العصير الطازج.
ولأن التعلم لا غنى عنه، فلا بد من الاستماع الى اغنية عن أحد حروف لغتنا الجملية فارى الفاء يرفرف مع فراشة جميلة وارى الكاف يتقافز في جيب كنغر.
وتستمر جولتي لألتقي بذلك الكعكي النهم الذي لا يكف عن اكل البسكويت مهما كلفه الأمر من اساليب ملتوية وطبعا لا بد من الاطمئنان على بدر الذي يعاني من صديقه أنيس ومقالبه المستمرة. ورغم كرهي للرياضيات فلا مناص من ان اتذكر ان اضلاع المربع متساوية وان المثلث له ثلاث زوايا فقط.
وحين تقارب الجولة على النهاية، أرى مختار الشارع فيصل الياسري يقف هناك في زاوية بعيدة على كرسيه الخشبي الصغير ينظر ويراقب ويتابع كل خطواتي ليتأكد من أنني تعلمت شيئا. أراه يراجع كل كلمة وكل حرف وكل حركة ليتأكد أن الدرس قد تم شرحه وتقديمه بكل وضوح ولا يغادر حتى يراني مبتسماً فسيتأكد ان عمله قد تم على أكمل وجه.
اليوم، رحل عن عالمنا الفاني المخرج العراقي الكبير فيصل الياسري. رحل مختار الشارع. رحل ذلك الصوت الهادئ الواثق عن دنيانا تاركا خلفه إرثا تعليميا قل نظيره. الياسري تمكن بعبقريته ان يجعل من برنامجه (أفتح يا سمسم) مدرسة مثالية لا نظير لها. ففي الوقت الذي كانت فيه المدارس في ذلك الزمان تتحفنا بمناهج مملة ومتعبة تجعل ذهابنا اليها رحلة عناء وشقاء، كانت مدرسة أفتح يا سمسم تستولي على قلوبنا بدروس واساليب تربوية تجعل الذهاب اليها رحلة متعة لا نود انقضائها.
الياسري المولود في عام 1933 بدأ حياته باصدار مجموعة قصصية تحت عنوان (في الطريق) عام 1948 ثم أصدر رواية (كانت عذراء) عام 1952 قبل ان يتوجه الى عالم الاخراج في العام 1958 بعد ان حصل على درجة الامتياز من عاصمة الفن والجمال فيينا ليخرج لنا عددا من الافلام ومنها فلم الرأس وفلم القناص وفلم بابل حبيبتي اضافة الى اخراجه لبرنامج المرايا الشهير لكن يبقى برنامج الاطفال التعليمي أفتح يا سمسم هو جوهرة التاج في مسيرة المخرج الراحل لما غرسه فينا من قيم اخلاقية راقية ومعلومات واساليب تعليمية غرست جذورها في اعماق قلوبنا وبقيت راسخة مثل تخلة عراقية باسقة
رحم الله المبدع الكبير فيصل الياسري وجزاه عن جيلنا كل خير.
ليث حمودي.
الصورة: الشرقية